كيف صرت مترجماً

يقول أرسطو :” الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروَّى”. ويقول كونفوشيوس :”لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر” من هنا يمكن أن نتبين أن حياة الإنسان مرتكزة على عنصر هام ألا وهو “العقل”، ويقول أفلاطون :”أن الإنسان هو حيوان ناطق”، فإن الله قد ميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بنعمة العقل والتفكير. إذاً إن الإنسان هو كائن مخير وليس مسيَّراً، فمن خلال الفكر يمكن أن يختار ويعبد درب العمر والحياة. أما من وجهة النظر الفلسفية فحياة الإنسان ترتكز على عاملين هما: “العقل والميل”. فالعقل هو كناية عن الواقع وحالة الوعي، أما الميل فهو كناية عن الرغبة واختلاجات النفس اللاواعية…
إن اختيار فرع الترجمة كمادة علمية وحقل للدراسة لم يكن قراراً سهلاً أو على سبيل الصدفة، لأن هذا القرار يمثل عملية اختيار طريق العمر والمستقبل. لقذ كان هناك عدة عوامل بلورت لي هذا الإختيار. أولاً، إننا اليوم في القرن الواحد والعشرين نعيش ظاهرة سياسية وإيديولوجية واقتصادية وثقافية.. ألا وهي “العولمة”، فإن العالم اليوم أصبح قرية كونية صغيرة من خلال تسهيل عمليات الإنتقال بيت مختلف الدول للأشخاص والأفكار والمعلومات والأعراف السلوكية، بما يؤمن توحيد العالم. ففي عصرنا الحالي أصبح لوجود المتجم بالغ الأثر والأهمية فإنه أصبح صلة الوصل بين الشرق والغرب والشعوب والدول والتكتلات الإقتصادية…، من خلال تسهيل عملية التواصل والتفاعل والإندماج الإجتماعي. إذن إن ظاهرة العولمة تظل نظرية أو أفكاراً غير مطبقة لولا جهود المترجمين. ثانياً، إن الأدب هو بمثابة المغذي والمنشط لعملية الترجمة. بالنسبة لي، إن قراءة الأعمال الأدبية هو بمثابة الغذاء للروح، وفرع الترجمة كان وليد هذا العشق والتعطش للقراءة والمطالعة. إن المترجم لا يقل أهمية عن الكاتب فهو ذاك الجندي المجهول الذي يقوم بنشر الأفكار الأدبية للعالم لتوحيد كلمة الأدب والفكر والعلم والتصوف… ثالثاً، إن العالم يُكون نسيجاً متنوعاً ومتعدداً من حيث الثقافات، ولعل أبرز عنصر من عناصر الثقافة لشعب ما هي لغته، فقال الشاعر وديع عقل:
“لا تقل عن لغتي أم اللغات انها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أم لم تلد لذويها العرب غير المكرمات
إن يوما تجرح الضاد به هو والله، لنا يوم الممات
ايها العرب إذا ضاقت بكم مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد ولو دحرجوكم معها في الفلوات”
من هنا، نرى مدى أهمية اللغة في تركيب ثقافة ما، فإن شعباً بلا لغة هو بمثابة شعب بلا ثقافة. إن المترجم يقوم بدور هام بهذا الخصوص، فلكي يكون هناك اندماج بين ثقافات العالم، يجب أن يكون هناك عملية “تثاقف” بين الثقافات. ولكي تتم هذه العملية يجب أن يكون هناك وجود فاعل للمترجم. فإن الثقافة تقوم أساساً على النموذج الألسني ويوجد أحسن تعبير عنه في أعمال ليفي شتراوس. إن هذا النموذج يقوم على اعتبار اللسان أو اللهجة من أبرز عناصر الثقافة، فبالطبع إن المترجمين هم من أوائل العناصر المقربة بين الثقافات. رابعاً، إن اختياري لفرع الترجمة يكمن وراءه حلم عظيم وجليل، ألا وهو إعادة الحنين إلى نفوس المغتربين والمهاجرين، في زمن أصبح فيه الوطن سبباً للهجرة أريد تحويله من خلال القلم والورقة إلى لبنان الحلم لبنان جبران خليل جبران ولبنان ميخائيل نعيمه بحيث أن ترك الوطن هو عبارة عن طعن الأم بالظهر وترك الأب مريضاً بلا أي سند، فيجب على المهاجر أن يشهر بالخطأ والندم لترك أرض الآباء والأجداد. إن هذه الرسالة أريد أن تصل بطريقة أو بأخرى، من خلال ترجمة الأعمال التي تبث الحنين في نفوس المهاجرين.
“ولي وطن آليت أن لا أبيعه وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
وحب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا”
“إبن الرومي”
خامساً، إن العقل والفكر هي من أبرز الدوافع لهذا الإختيار، فمع الأسف، إن شبابنا اليوم قد تشرب عنصر المادية وأصبحت تجري في عروقه، فنرى أن أكثرية الشباب يتجه نحو الفروع التي تدر المال ويقوم بإهمال الفروع الفكرية والأدبية والثقافية، وهي التي تدر المعرفة والتقدير وحتى المال…، لذلك ترسخت في ذهني قناعة بأن هذا الفرع العطيم الذي لا يمكن اختصاره بكلمتينمن الجيد التعرف عليه أكثر، والتبحر في معانيه الإنسانية القيمة. سادساً، إن الميل قد كان له أثر بالغ في هذا الإختيار، فمنذ الطفولة كنت أحب قراءة القصص والكتب وكتابة المذكرات وكل ما يشحذ نفسي بالمشاعر الجياشة. فإن هذا الميل الروحي الأدبي الفكري فد تبلور في اختيار هذا الفرع. إن الترجمة هي أضواء تشرق من قلوب الأنبياء وصدور الأوصياء وأدمغة العلماء والأدباء، ما أحوج عصرنا إلى مثل هذا المجال النفيس، وما أحوج مكتبتنا إلى مثل هذا الحصاد الإنساني والأدبي الفريد. تجارب عصور وأجيال في صحائف، فلا تجعلوا عنصراً من عناصر تراث هذا الوطن يضيع كما ضاعت الكثير من العناصر بسبب الجشع الإنساني والطمع والمادية. ولا بد هنا من التوقف على حادثة تكون خير دليل: حينما كان “سنكلر لويس” طالباً في جامعة “بيل” قال لأحد أساتذته: إن أعز أمنية عندي هي أن أصبح مترجماً، فقال له الأستاذ: ولكنك سوف تكون فقيراً لو تحققت أمنيتك هذه! ، فقال سنكلر: لن يهمني ذلك يا سيدي، فأجابه الأستاذ وهو يربت على كتفيه: إذن سوف تكون مترجماً ناجحاً يا بني! . سابعاً، إن مدينة بيروت التي تعتبر أم الشرائع، ومهد الحرف والكلمة، وعاصمة الثقافة العالمية، وموطن الأانبياء والعطماء والثوار والقادة ومدرسة وجامعة للدول العربية والأجنبية…، هذا الوطن الغني بتراثه وثقافته وفكره يعيش اليوم حالة انحطاط أدبي وفكري وهو غارق في نوم الجاهلية والتخلف، وإن كل أمجاد الماضي تكاد تدمر ، فنرى عملية عصرنة اللغة العربية، فبعد عدة عقود قد نرى اللغة العربية أصبحت من التراث اللبناني، لذلك قررت اختيار هذا الفرع للمساهمة بإعادة إحياء لغة “الضاد” هذه اللغة العصية عن الموت.
أخيراً، تعددت الأسباب التي تتمثل بمجاري الأنهار والمصب واحد أي الترجمة. “إنا خلقناكم شعوب وقبائل لتعارفوا” (قرآن كريم)، إن الله أمر الناس بالتعرف والتواصل والإنفتاح، وربما أرسل المترجم ليكون صلة الوصل هذه. وبالنهاية يقول الإمام علي: “المرء بأصغريه: قلبه ولسانه”.

translation-services

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *