حرية اليوم

“أولئك الذين يحسبون أن الحياة صخرة صلدة، وأن الشريعة إزميل حاد يأخذونه بأيديهم لكي ينحتوا هذه الصخرة على صورتهم ومثالهم ”
“جبران خليل جبران”
إذا أردنا التطرق إلى موضوع التطرف والتعمق به، نجد أنفسنا أمام بحر من المعلومات والقضايا والمشاكل والآراء. لذلك قد ارتئيت أن أقوم بتسليط الضوء على هذه القضية وأخذ جانب المدافع عن الحريات التي تتناقض مع فكرة العنف والتطرف. إننا اليوم ومع الأسف نعيش في عالم تنتهك فيه الحرمات وتقام المجازر والحروب ويتم الإعتداء على المقدسات وكل ذلك تحت عنوان عريض هو “الحرية”. ولكن، هل الحرية مطلقة؟ ألا يجب أن يكون هناك ضوابط وقوانين تحكم هذه الحرية؟
إن مفهوم الحرية يرتكز على “الإحترام” و”العيش بكرامة”. ولكن حرية اليوم تختلف عن حرية الأمس، فإن الإنسان قد قام بتطوير العلم والمعرفة والتكنولوجيا والحضارة وحتى الحرية. ولكن هذا التطور الذي طرأ على الحرية لم يكن تطورًا إلى الأفضل بل كان تطورًا نحو الأسوء وإلى ما فيه هلاك البشرية.
فأصبح تعريف الشخص الحر في أيامنا هذه على الغلاف-حريهشكل الآتي “هو الشخص الذي يعتبر أن بلده هو البلد المثالي الذي يشبه الجمهورية الفاضلة لأفلاطون وباقي البلاد هي شر وخراب، هو الشخص الذي يعتبر أن العرق الذي ينتمي إليه هو العرق السامي والنبيل وباقي الأعراق تأتي بالدرجة الثانية، هو الشخص الذي يعتبر أن دينه هو الدين المنّزل فمن اتبعه قد نجى ومن كان من أتباع ديانة أخرى فمصيره هو الهلاك…إلخ”.
من هنا نرى مدى فظاعة وهول المشهد الذي نعيشه اليوم، فإن العالم قد انفتح على بعضه اسميًا ولكن فعليًا فإن الشعوب تزداد انغلاقًا وتقوقعًا، والتطور العلمي الذي نشهده يقابله تقوقعًا وتحجرًا فكريًا وثقافيًا وحضاريًا وعقائديًا. أمّا إذا نظرنا إلى حياة الثوار والأنبياء والقادة نرى بأنها مليئة بالمصاعب لراحة البشر ولتحررهم من قيود العبودية، فإن السيد المسيح عيسى ابن مريم قد واجه المصاعب لراحة البشر ولهداية الناس، وأن النبي محمد عاش حياة مليئة بالمصاعب والشدائد دفاعًا عن الحق ونصرة للمظلومين، كما وأن بوذا قد أفنى حياته بالتصوف والإيمان والإبتعاد عن الماديات لإرشاد البشر إلى طريق الحق. فإن التنوع في الحياة هو بمثابة العلاج الشافي للمصاعب، فالتنوع هو أسمى وأبهى ما في الدنيا وهو نعمة من الله للتكامل والرفاه. فالإختلاف والتنوع على جميع الصعد: لون البشرة، المعتقد، العمل، طريقة التفكير… تشكل مصدر قوة إذا استغلت بالشكل الصحيح والمفيد للبشرية ولخير وصالح الإنسان.
إن الحياة هي جمال بكل وجوهها، فكيف بالتنوع والإختلاف؟؟؟
مالي وما لغيري، فلأحدثك عن نفسي: قد عايشت المسلم والمسيحي، وازددت إيمانًا. قد عايشت الأبيض والأسود، فعرفت معنى الإنسانية الحقة. قد عايشت الفقير والغني، فتعلمت كيف أكون متواضعًا. قد عايشت الفلاح والمهندس، وازددت معرفة. قد عاشرت المجرم والمسالم، وتعلمت معنى السلام. انطلاقًا من تجربتي الشخصية في الحياة، إن التنوع هو ركيزة لا يمكن التخلي عنها، كما وأن التوحد هو من أبشع المظاهر في هذه الحياة لأنه يزيد من التعصب والتطرف والإنغلاق والتمسك بالرأي والمصاعب في الحياة. فإذا أخذنا تجربة فرنسا على سبيل المثال فإنها أم الديمقراطيات لأنها قائمة على التعدد، كما وأن لبنان هو من أعظم الأمثلة على التنوع فإن لبنان هو كطائر الفينيق الذي لا يطير إلا بجناحيه المسلم والمسيحي الذي يعلو ويسمو بلبنان إلى أفق التسامح والمحبة الرحب.
أن ما كان أساطير وأحلام عند أجدادنا أصبح اليوم حقيقة يجب الإعتراف بها، ألا وهي التنوع وتفرع طرق الحياة وتقبل الرأي الآخر، بالرغم من بعض الأصولت التي تشدو خارج هذا السرب (أي الأصوات الراغبة بالمصاعب في الحياة). ناهيك عن أنه منذ بداية تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لم يأتي رئيس أسود البشرة إلا في أيامنا هذه، ما يؤكد أن مسألة التنوع أصبحت واقعًا مفروضًا. إن الحياة الخالية من التنوع لهي أغنية على وتيرة واحدة، ومن تروق له مثل هذه الأغنية؟ فالحياة لا تحلو ولا تطيب ما لم تتنوع.
إن من يطلب عالمًا لا تنوع فيه كمن يطلب لحمًا بلا عظم، ونارًا بلا دخان، ونورًا لا يحرق. إن التنوع هو نعمة وهدية من الله فلا نحول هذه النعمة إلى نقمة. إن الحياة أصبحت اليوم أصعب من قبل، من خلال ما تشهده من مظاهر الحداثة والتمدن والتطور، لذلك فإن ميادين العمل والتخصص قد اتسعت، وأصبحنا نرى الكثير من المهن والوظائف، وهذا يشكل غنى وتقدم لحياتنا المعاشة، فمن خلال سيرنا على هذه الطريق المتشعبة والمتفرعة نقوم بالقضاء بشكل جزئي على مصاعب الحياة.
إن حزمة من العصي لا يمكن أن تكسر بسهولة، أمّا عصى واحدة فتكسر بسرعة. فإن التوحد في الحياة سوف يؤدي إلى الهلاك أما التنوع والسير على طرق مختلفة سيؤدي حتمًا إلى تذليل المصاعب، فالإنسان هو محور كل شيء، فباستطاعته أن يحول الحياة إلى نعيم أو إلى جحيم. وبهذا الخصوص يقول بوذا:”لن يلقى السعادة ذلك الذي يبذل جهده للوصول إلى سعادته الشخصية بأن يسيء معاملة أو يبيد الكائنات التي هي أيضًا تنشد السعادة.” فالإنسان عليه أن يعمل للكل ليحصل على السعادة الشخصية وليس العمل لمصلحة شخصية فحتمًا سوف يواجه المصاعب”. ويقول كونفوشيس: “خير لك أن تشعل مصباحًا لا يكاد يرى من أن تنفق وقتك في استمطار اللعنة على الظلام”.

كيف صرت مترجماً

يقول أرسطو :” الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروَّى”. ويقول كونفوشيوس :”لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر” من هنا يمكن أن نتبين أن حياة الإنسان مرتكزة على عنصر هام ألا وهو “العقل”، ويقول أفلاطون :”أن الإنسان هو حيوان ناطق”، فإن الله قد ميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بنعمة العقل والتفكير. إذاً إن الإنسان هو كائن مخير وليس مسيَّراً، فمن خلال الفكر يمكن أن يختار ويعبد درب العمر والحياة. أما من وجهة النظر الفلسفية فحياة الإنسان ترتكز على عاملين هما: “العقل والميل”. فالعقل هو كناية عن الواقع وحالة الوعي، أما الميل فهو كناية عن الرغبة واختلاجات النفس اللاواعية…
إن اختيار فرع الترجمة كمادة علمية وحقل للدراسة لم يكن قراراً سهلاً أو على سبيل الصدفة، لأن هذا القرار يمثل عملية اختيار طريق العمر والمستقبل. لقذ كان هناك عدة عوامل بلورت لي هذا الإختيار. أولاً، إننا اليوم في القرن الواحد والعشرين نعيش ظاهرة سياسية وإيديولوجية واقتصادية وثقافية.. ألا وهي “العولمة”، فإن العالم اليوم أصبح قرية كونية صغيرة من خلال تسهيل عمليات الإنتقال بيت مختلف الدول للأشخاص والأفكار والمعلومات والأعراف السلوكية، بما يؤمن توحيد العالم. ففي عصرنا الحالي أصبح لوجود المتجم بالغ الأثر والأهمية فإنه أصبح صلة الوصل بين الشرق والغرب والشعوب والدول والتكتلات الإقتصادية…، من خلال تسهيل عملية التواصل والتفاعل والإندماج الإجتماعي. إذن إن ظاهرة العولمة تظل نظرية أو أفكاراً غير مطبقة لولا جهود المترجمين. ثانياً، إن الأدب هو بمثابة المغذي والمنشط لعملية الترجمة. بالنسبة لي، إن قراءة الأعمال الأدبية هو بمثابة الغذاء للروح، وفرع الترجمة كان وليد هذا العشق والتعطش للقراءة والمطالعة. إن المترجم لا يقل أهمية عن الكاتب فهو ذاك الجندي المجهول الذي يقوم بنشر الأفكار الأدبية للعالم لتوحيد كلمة الأدب والفكر والعلم والتصوف… ثالثاً، إن العالم يُكون نسيجاً متنوعاً ومتعدداً من حيث الثقافات، ولعل أبرز عنصر من عناصر الثقافة لشعب ما هي لغته، فقال الشاعر وديع عقل:
“لا تقل عن لغتي أم اللغات انها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أم لم تلد لذويها العرب غير المكرمات
إن يوما تجرح الضاد به هو والله، لنا يوم الممات
ايها العرب إذا ضاقت بكم مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد ولو دحرجوكم معها في الفلوات”
من هنا، نرى مدى أهمية اللغة في تركيب ثقافة ما، فإن شعباً بلا لغة هو بمثابة شعب بلا ثقافة. إن المترجم يقوم بدور هام بهذا الخصوص، فلكي يكون هناك اندماج بين ثقافات العالم، يجب أن يكون هناك عملية “تثاقف” بين الثقافات. ولكي تتم هذه العملية يجب أن يكون هناك وجود فاعل للمترجم. فإن الثقافة تقوم أساساً على النموذج الألسني ويوجد أحسن تعبير عنه في أعمال ليفي شتراوس. إن هذا النموذج يقوم على اعتبار اللسان أو اللهجة من أبرز عناصر الثقافة، فبالطبع إن المترجمين هم من أوائل العناصر المقربة بين الثقافات. رابعاً، إن اختياري لفرع الترجمة يكمن وراءه حلم عظيم وجليل، ألا وهو إعادة الحنين إلى نفوس المغتربين والمهاجرين، في زمن أصبح فيه الوطن سبباً للهجرة أريد تحويله من خلال القلم والورقة إلى لبنان الحلم لبنان جبران خليل جبران ولبنان ميخائيل نعيمه بحيث أن ترك الوطن هو عبارة عن طعن الأم بالظهر وترك الأب مريضاً بلا أي سند، فيجب على المهاجر أن يشهر بالخطأ والندم لترك أرض الآباء والأجداد. إن هذه الرسالة أريد أن تصل بطريقة أو بأخرى، من خلال ترجمة الأعمال التي تبث الحنين في نفوس المهاجرين.
“ولي وطن آليت أن لا أبيعه وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
وحب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا”
“إبن الرومي”
خامساً، إن العقل والفكر هي من أبرز الدوافع لهذا الإختيار، فمع الأسف، إن شبابنا اليوم قد تشرب عنصر المادية وأصبحت تجري في عروقه، فنرى أن أكثرية الشباب يتجه نحو الفروع التي تدر المال ويقوم بإهمال الفروع الفكرية والأدبية والثقافية، وهي التي تدر المعرفة والتقدير وحتى المال…، لذلك ترسخت في ذهني قناعة بأن هذا الفرع العطيم الذي لا يمكن اختصاره بكلمتينمن الجيد التعرف عليه أكثر، والتبحر في معانيه الإنسانية القيمة. سادساً، إن الميل قد كان له أثر بالغ في هذا الإختيار، فمنذ الطفولة كنت أحب قراءة القصص والكتب وكتابة المذكرات وكل ما يشحذ نفسي بالمشاعر الجياشة. فإن هذا الميل الروحي الأدبي الفكري فد تبلور في اختيار هذا الفرع. إن الترجمة هي أضواء تشرق من قلوب الأنبياء وصدور الأوصياء وأدمغة العلماء والأدباء، ما أحوج عصرنا إلى مثل هذا المجال النفيس، وما أحوج مكتبتنا إلى مثل هذا الحصاد الإنساني والأدبي الفريد. تجارب عصور وأجيال في صحائف، فلا تجعلوا عنصراً من عناصر تراث هذا الوطن يضيع كما ضاعت الكثير من العناصر بسبب الجشع الإنساني والطمع والمادية. ولا بد هنا من التوقف على حادثة تكون خير دليل: حينما كان “سنكلر لويس” طالباً في جامعة “بيل” قال لأحد أساتذته: إن أعز أمنية عندي هي أن أصبح مترجماً، فقال له الأستاذ: ولكنك سوف تكون فقيراً لو تحققت أمنيتك هذه! ، فقال سنكلر: لن يهمني ذلك يا سيدي، فأجابه الأستاذ وهو يربت على كتفيه: إذن سوف تكون مترجماً ناجحاً يا بني! . سابعاً، إن مدينة بيروت التي تعتبر أم الشرائع، ومهد الحرف والكلمة، وعاصمة الثقافة العالمية، وموطن الأانبياء والعطماء والثوار والقادة ومدرسة وجامعة للدول العربية والأجنبية…، هذا الوطن الغني بتراثه وثقافته وفكره يعيش اليوم حالة انحطاط أدبي وفكري وهو غارق في نوم الجاهلية والتخلف، وإن كل أمجاد الماضي تكاد تدمر ، فنرى عملية عصرنة اللغة العربية، فبعد عدة عقود قد نرى اللغة العربية أصبحت من التراث اللبناني، لذلك قررت اختيار هذا الفرع للمساهمة بإعادة إحياء لغة “الضاد” هذه اللغة العصية عن الموت.
أخيراً، تعددت الأسباب التي تتمثل بمجاري الأنهار والمصب واحد أي الترجمة. “إنا خلقناكم شعوب وقبائل لتعارفوا” (قرآن كريم)، إن الله أمر الناس بالتعرف والتواصل والإنفتاح، وربما أرسل المترجم ليكون صلة الوصل هذه. وبالنهاية يقول الإمام علي: “المرء بأصغريه: قلبه ولسانه”.

translation-services